كنت أعيش حياة عادية فاترة، أصحو لأكرر ما فعلته بالأمس، أعد الفطور للأسرة ثم أخرج إلى عملى وأعود لأجهز الغداء ثم العشاء، قبل النوم ألبى رغبات زوجى، أخشى أن يقول: أنت طالق، ويذهب لأخرى، أليس هذا حقه المطلق فى القانون والشرع؟ أمى كانت محجبة تشتغل داخل البيت طول النهار، واجبها الطاعة، لا ترفع صوتها على صوت أبى، تبتلع ألفاظه الجارحة فى صمت، وإن صفعها لا ترد، كانت هى الأم المثالية فى نظر الدولة والمجتمع فتعلمت منها الطاعة والخضوع، كان أبى يصفعنى بمثل ما يفعل مع أمى، تدرب أخى الأكبر على تقليد سلوك أبيه، وأمى تقول له منذ طفولته «إنت راجل استرجل واحكم أختك» ، تخرجت فى الجامعة واشتغلت وتزوجت وأنجبت، أصحو كل يوم بالطريقة نفسها، أردد كلام أمى بالطريقة نفسها فى المناسبات نفسها، أنام فى الأوقات نفسها وأحلم الأحلام نفسها، حتى بلغت ابنتى العاشرة من عمرها وكانت متفوقة على أخيها، الذى حاول السيطرة عليها، صفعها على وجهها لخروجها دون إذن، كان اليوم ١-;-١-;- فبراير ٢-;-٠-;-١-;-١-;- والمظاهرات على أشدها، وحدث ما لم أشهده فى حياتى: رفعت ابنتى يدها عاليا وردت الصفعة لأخيها على وجهه.
تذكرت حلما قديما فى طفولتى، أن أرفع يدى وأرد الصفعة لأخى وأبى، لكن الحلم ظل مكبوتا فى أعماقى، كانت ابنتى فى العاشرة من عمرها وأنا فى الثلاثين: زوجة مطيعة وأم مثالية وموظفة بالدولة ناجحة.
وقفت مذهولة: أتمتلك ابنتى الطفلة شجاعة لم أمتلكها؟ ساورتنى رغبة أن أصفعها، أو أن يسترجل أخوها ويصفعها؟
لكنى وقفت عاجزة عن الحركة، لدهشتى وقف أخوها أيضا لا يتحرك. أكثر ما أدهشنى أنها فتحت الباب وخرجت من البيت دون أن يطرف لها جفن.
اندفعت وراءها فى الشارع، كانت خطوتها أخف وأسرع، قفزت من خلفها فى الأتوبيس وهبطت معها،
كانت على موعد مع مجموعة تلميذات فى ميدان التحرير، تشاركهن المظاهرات منذ ٢-;-٥-;- يناير، سمعتها تهتف معهن: يسقط حسنى مبارك.
كدت أهتف لولا فمى المطبق بقوة الثلاثين عاما من عمرى، وإن انفرجت شفتاى فإن صوتى ينحبس، وقلبى تحت ضلوعى ينتفض، منذ ولدت عام ١-;-٩-;-٨-;-١-;- لم أكن أسمع اسمه، وإن همسا، حتى يصيبنى الرعب، فكيف أهتف بسقوطه فى الميدان الكبير؟
جمعت أجزاء نفسى المشتتة وشجاعتى المكبوتة، فتحت فمى شيئا فشيئا حتى نطقت كلمة «يسقط» مع أنفاسى اللاهثة، ثم نطقت اسمه مع زفيرى العميق الطويل، وكأنما انحلت عقدة لسانى فانطلقت الكلمات من فمى المفتوح فى نفس واحد: يسقط حسنى مبارك. كانت هى الخطوة الأولى لاكتشاف نفسى المكبوتة منذ الطفولة، تبعتها خطوات أخرى متعددة، حتى ارتفعت يد زوجى وصفعنى على وجهى، دون سبب، أو لخطأ لا أعرفه، أو لأنه غاضب من شخص غيرى، كان قد تعود على هذه الحركة منذ تزوجنا، وكان الخوف يشل يدى فلا ترتفع، فوجئت بيدى ترتفع عاليا وتسقط على وجهه بقوة، ترد له الصفعة صفعتين، ولم ترتفع يده أبدا من بعد. أصبح زوجى مؤدبا.
نوال السعداوي
شكراً